فصل: تفسير الآيات (204- 208):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (204- 208):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبيّ، والأخنس لقب، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام، وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حمراً، فنزلت فيه هذه الآيات.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.
وقال ابن عباس: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا: ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين: ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} الآية، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: أن من عباد الله قوماً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. ومعنى {ويشهد الله} أي يقول: الله يعلم أني أقول حقاً، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن ويشهدُ الله بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه، و{ما في قلبه} مختلف بحسب القراءتين، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر، أي هو في قلبه بزعمه، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن، وقرأ ابن عباس {والله يشهد على ما في قلبه} وقرأ أبي وابن مسعود {ويستشهد الله على ما في قبله} والألد: الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي، ومنه لديد الفم، واللدود، ويقال منه: لدِدت بكسر العين ألد، وهو ذم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، ويقال: لَددته بفتح العين ألُده بضمها إذا غلبته في الخصام، ومن اللفظة قول الشاعر: [الخفيف]
إنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْماً وَعَزْماً ** وَخَصيماً أَلَدَّ ذا مِعْلاَقِ

و{الخصام} في الآية مصدر خاصم، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم.
و{تولى} و{سعى} تحتمل جميعاً معنيين: أحدهما أن تكون فعل قلب فيجيء {تولى} بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيلة وإرادته الدوائر على الإسلام، ومن هذا السعي قول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]، ومنه {وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19]، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أسعى على حيِّ بني مالك ** كل امرئ في شأنِهِ سَاعِ

ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء {تولى} بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد، و{سعى} يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره، وكلا السعيين فساد.
وقوله تعالى: {ويهلك الحرث والنسل}.
قال الطبري: المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر.
وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل، وقيل: المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون.
وقال الزجّاج: يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد، إذ كل فساد في أمور الدنيا، فعلى هذين الفصلين يدور، وأكثر القراء على {يُهلكَ} بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفاً على {ليفسد}، وفي مصحف أبي بن كعب وليهلكَ، وقرأ قوم ويهلكُ بضم الكاف، إما عطفاً على {يعجبك} وإما على {سعى}، لأنها بمعنى الاستقبال، وإما على القطع والاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن وَيهلِكُ بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع الحرثُ والنسَلُ وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو ويُهلكُ بضم الياء والكاف {الحرث} بالنصب، وقرأ قوم{وَيهلكَ} بفتح الياء واللام ورفع الحرثُ وهي لغة هلِكَ يهلَكُ، تلحق بالشواذ كركن يركن، و{الحرث} في اللغة شقَ الأرض للزراعة، ويسمى الزرع حرثاً للمجاورة والتناسب، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملاً على الزرع، ومنه قول عز وجل {إذ يحكمان في الحرث} [الأنبياء: 78]، وهو كرم على ما ورد في التفسير، وسمي النساء حرثاً على التشبيه، و{النسل} مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعاً ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، ومنه قوله تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} [الأنبياء: 96]، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
***فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ ** و{لا يحب} معناه لا يحبه من أهل الصلاح، أي لا يحبه ديناً، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه، والفساد واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة.
قال القاضي أبو محمد: والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد: إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته.
وقوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله} الآية، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهواً، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا.
وقال بعض العلماء: كفى بالمرء إثماً أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له: عليك نفسك، مثلك يوصيني؟. والعزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتخى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته أباه، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين، و{حسبه} أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به، و{المهاد} ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش، ومن هذا الباب قول الشاعر: [الوافر]
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

وقوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه} الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذه على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع، ومن قال تلك في الأخنس قال: هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان.
وقال عكرمة وغيره: هذه في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده، فنثر كنانته، وقال لهم: تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً، ولكن دلنا على مالك ونتركك، فدهلم على ماله وتركوه، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له: «ربح البيع أبا يحيى»، فنزلت فيه هذه الآية، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم، و{يشري} معناه يبيع، ومنه {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20]، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]
وَشَريْتُ برداً لَيْتَنِي ** مِنْ بَعْدِ برْدٍ كُنْتَ هَامَه

وقال الآخر: [الكامل]
يعطى بها ثمناً فَيَمْنَعُها ** وَيَقُولُ صَاحِبُهُ أَلاَ تَشْرِي

ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع.
وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر، ولذلك قال علي وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا.
وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شباباً من القرأة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغيرهما فيقرؤون بين يديه ومعه، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول: اقتتل الرجلان، حين قرأ هذه الآية، فسأله عما قال، ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر: لله تلادك يا ابن عباس.
وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، ليس كما قالوا، بل هذا قول الله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه} الآية.
و{ابتغاء} مفعول من أجله، ووقف حمزة على {مرضاة} بالتاء والباقون بالهاء. قال أبو علي: وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت ** وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولابد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد.

وقوله تعالى: {والله رؤوف بالعباد} ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى: {فحسبه جهنم} تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي السلم بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع، فقيل: هما بمعنى واحد، يقعان للإسلام وللمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: السِّلم بكسر السين الإسلام، وبالفتح المسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدئ بها فلا.
واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق {كافة} حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز، نحو قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27]، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقال عكرمة: بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره.
وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوارة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم، ف {كافة} على هذا لإجزاء الشرع فقط.
وقال ابن عباس: نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى يا أيها الذي آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، ف {كافة} على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن يراها المسالمة يقول: أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية، و{كافة} معناه جميعاً، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفها، وقيل: إن {كافة} نعت لمصدر محذوف، كأن الكلام: دخله كافة، فلما حذفت المنعوت بقي النعت حالاً، وتقدم القول في {خطوات}، والألف واللام في {الشيطان} للجنس، و{عدو} يقع على الواحد والاثنين والجميع، و{مبين} يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو، لأن العرب تقول: بان الأمر وأبان بمعنى واحد.

.تفسير الآيات (209- 212):

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
قرأ جمهور الناس {زلَلتم} بفتح اللام، وقرأ أبو السمال {زلِلتم} بكسرها، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء ويغير ذلك، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق، و{البينات} محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولاً لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به، و{عزيز} صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه، و{حكيم} أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم.
وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل، فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقرأ الرجل: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم}، فقال كعب: هكذا ينبغي.
وقوله تعالى: {هل ينظرون} الآية، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و{هل} من حروف الابتداء كأما، و{ينظرون} معناه ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق، وقرأ قتادة والضحاك في ظلال، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا، وفي الحرفين في الزمر. وقال عكرمة: {ظلل} طاقات، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة {والملائكةِ} بالخفض عطفاً على {الغمام}، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفاً على {الله}، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا.
وقال قوم: بل هو توعد بيوم القيامة، وقال قوم: قوله: {إلا أن يأتيهم الله} وعيد بيوم القيامة، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت، و{الغمام} أرق السحاب وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو إسرائيل.
وقال النقاش: هو ضباب أبيض، وفي قراءة ابن مسعود {إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام}، و{قضي الأمر} معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر، وقرأ بحيى بن يعمر وقضى الأمور بالجمع، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي {تَرجع} على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون {تُرجَع} على بنائه للمفعول، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
وقوله تعالى: {سل بني إسرائيل} الآية، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إباحة السؤال لمن شاء من أمته، ومعنى الآية توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينة. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس عنه {اسأل} على الأصل، وقرأ قوم {اسل} على نقل الحركة إلى السين وترك الاعتداد بذلك في إبقاء ألف الوصل على لغة من قال الحمر، ومن قرأ {سل} فإنه أزال ألف الوصل حين نقل واستغنى عنها.
و{كم} في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها لأن لها صدر الكلام، تقديره كم آتينا آتيناهم، وإما ب {آتيناهم}. وقوله: {من آية} هو على التقدير الأول مفعول ثان ل {آتيناهم}، وعلى الثاني في موضع التمييز. ويصح أن تكون {كم} في موضع رفع بالابتداء والخبر في {آتيناهم}. ويصير فيه عائد على {كم} تقديره كم آتيناهموه، والمراد بالآية: كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه، و{نعمة الله} لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوي من حال النبي معهم أن المشار إليه هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحباً على كل مبدل نعمة لله تعالى.
وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضاً كفار قريش الذين بعث محمد منهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفراً، والتوراة أيضاً نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {فإن الله شديد العقاب} خبر يقتضي ويتضمن الوعيد، و{العقاب} مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر.
وقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة زَيَن على بناء الفعل للفاعل ونصب {الحياة}، وقرأ ابن أبي عبلة {زينت} بإظهار العلامة، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي، وخص الذين كفروا الذكر بقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها، والتزيين من الله تعالى واقع للكل، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملاً، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا.
وقوله تعالى: {ويسخرون} إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب، كما قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} [الفرقان: 24]، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم كانوا يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك.
وقوله تعالى: {والله يزرق من يشاء بغير حساب} يحتمل أن يكون المعنى: والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا علمه ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك، بل الرزق بغير حساب الأعمال، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب، حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينفد، ويحتمل أن يكون {بغير حساب} صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب هذا الذي يشاؤه الله، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين، كما قال تعالى: {ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 3]، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى: {عطاء حساباً} [النبأ: 36]، فالمعنى في ذلك محسباً، وأيضاً، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادة وغير الحساب في التفضل والإنعام.